كتّاب الأبدية الجدد

هام على وجهه الكاتب والشاعر العراقي حميد العقابي حتى استقر اخيراً في حوض رماده. نصوص هذا الكتاب - أصغي الى رمادي - تستحق احتفاء خاصاً يليق بمجالها الحيوي, غير الاستثنائي. احصاءات للمعتقلات كأنها خشبات اعظم المسارح, تجنن. هيمانات بكل أسر, معتقل, سجن غير مركزي, اقامة غير محددة, عادية وسأمة في الداخل المسرحي, والخارج, بين دول الجوار, مر, عاش ودمر فيها ما بين الطارئ: الاذعان والنهائي الطويل الطويل, الرعب. للتهديدات والعربدات العاتية حتى غدت تلك الاماكن مصابيح تتدلى في مكان ابديته الجديد, الدنمارك, يراها فتكرر الابدية نفسها, تغلق جفنيها فيبكي هو بدلاً عنها في اليقظة, ويركلها حين يتضاعف هطول الثلوج. تلك الابدية, استخرجت من العقابي هذا التكريم الفذ للكتابة والافتتان العنيف بالصوت الخفيض. تماماً, انه هكذا, يكتب, فنسمع صوت الاضطراب الرهيب, الاحلام المغرر بها والافكار الكبرى التي وسخها البرابرة وهم يتفرجون على شقائه فلم ينقلب رأساً على عقب, لكنه رابط بين اللكمات والانذارات وكتب عن الحب الملطخ بالطين والبذاءات, عن المرأة شمعة, احدى أجمل الشخصيات الروائية في الأدب العراقي الحديث. عن الوقت الرائع الذي هرس شبابه بوحشية وانهال عليه بدون ضجة.

ليس في النية, نيتي, تسجيل المديح للكاتب بوتيرة مرتفعة, ولا اريد ان تصل حماستي الى النقطة النهائية لهذا الكاتب العراقي المهم والمعذب, لكني لهذه الاسباب وغيرها, اتساءل عن هؤلاء الكتاب والكاتبات العراقيات, اللاتي/ الذين يعيشون في سجن الحرية الجديد, ينهال عليهم المجال, الزمان والمكان الاسكندينافي, الاوروبي, الآسيوي, الشرقي القريب والبعيد, يحترقون وحيدين صامتين مثل حطب المدفأة, مع جلاد يتجدد باستمرار. الوحشة الصلفة الغاشمة.

يكتبون بلا زعيق, بصوت غير ذرائعي, عن ذلك القدر من الشقاء المجدي الفريد من نوعه. اسماء مجهولة, معلومة, صحيحة, حميمة, ومتميزة, لا تسندها غير العزيمة والمثابرة وشرف المحن المتوالية حتى لو كانت مشوشة لانقطاع هذا التيار عن ذاك (السياسي بالطبع). لكن القيمة الموضوعية لهذه الكتابات قادرة ان تشكل نسيجاً بمقدوره الاحتفاظ بوهج الابداع,الابتعاد عن خصومات المواقف والتكتكات السياسية. أتساءل والاسماء فائضة وليست افتراضية, انهم يكتبون, ليس اكثر مما ينبغي ولا أقل. يكتبون ما نتمنى. كتابة عرقية صارمةوعفيفة, تعلّم وتنتج حالة تقاطع ومفارقة مع الكثير من الكتابات العراقية/ والعربية. كتابة تغمّسك بالبلد, تنقّعك بالجمال العراقي فيتقوى تواضعك, مناعتك وفخرك.

معظم الكتاب القاطنين البرية الاسكندينافية لا اعرفهم الا عبر البريدد الالكتروني أو العادي, عبر مخطوطاتهم ونصوصهم الحقيقية, كتبهم المطبوعة, اما على حسابهم الشخصي بطبعات محدودة. فـ(الأهل) في بلاد الشام, بيروت ومصر, لا يطبعون لهم, واذا ما وافقوا فالأسعار من شدة تضخمها تبدو كالنكتة البذيئة. لكنهم يواصلون, عنادهم بسيط خارق وغضبهم ليس مميتاً. القائمة طويلة ومبعثرة على قدر تبعثرهم بين دول العالم. السؤال فوراً يحضر طالما مؤتمر الرواية العربية على الابواب في شباط (فبراير) القادم. سلك التلفون, الفاكس, جميع الخطوط والآلات الالكترونية سالكة تشجع على استخدامها في الأوقات العصيبة كهذه, عنوان المؤتمر, عز الطلب: الرواية والمكان, بغداد, والعراق بأسره المكان الاشد حيوية, المطلوب سحقه من جاذبيته الشديدة, واولئك الكتاب والكاتبات سوف يقدمون وثائق مكتوبة, ملفات, نصوصاً, قبل هذا وذاك, ابداعاً يؤرخ افضل الحكايات والسرديات مرفوعة على تخوم حيواتهم الفاجعة بذلك الكم الهائل والمشين من الويل الغصص والأذية. سوف يضفون على مكان الرواية المجازي والحقيقي الاحتفاء بالمكان الاصلي كحد ادنى من الواقعية, وحد اعلى من فوضى المكان, بغداد, العراق باجمعه. مؤتمر الرواية العربية القادم في القاهرة يستطيع الانحياز لهؤلاء الكتاب المشاغبين المزعجين الحيين, واستضافتهم بدلاً من (النجوم) المعروفين (الذين يتلمظون سرد الحكايات نفسها والاستماع اليها منذ ثلاثين عاماً). حميد العقابي أحد التجارب الابداعية التي تتوسط المشهد الثقافي العراقي في المهاجر والسرابات الكبرى, يقف بين حشد من اسماء عراقية مميزة كسلام ابراهيم, سالمة صالح, ابراهيم أحمد, شاكر الانباري, جنان جاسم حلاوي, بتول الخضيري, فاروق يوسف, زهير شليبيه وهيفاء زنكنة, واسماء لم تسعفني ذاكرتي الخائنة على تذكرها وتعدادها بسبب التقدم في السن. لكني استدير امامها واقول آمين.

  عالية ممدوح  الحياة  8/12/2002

>>