لحظة فـرح |
حينما خرجتُ من المستشفى كان الثلجُ يهطلُ بغزارةٍ والرياحُ القطبيةُ تصفّرُ حزناً منفلتاً من ناي معطوب . هل كنتُ حزيناً حقاً ؟ ربما كنتُ مأخوذاً بجلالِ الموقف أو خائفاً من الوحدة
واختلال ميزان أيامي القادمة . أزحتُ بكفي الثلجَ المتراكم على المصطبة وكما قنفذٍ سحبتُ رأسي إلى الداخل محتمياً بياقةِ معطفي الطويلة ، جلستُ متجاهلاً نظرات زوّار المستشفى وهم يحتمون بزجاج
الكافتيريا كممثل بارعٍ اعتاد الوقوف أمام كاميرات التصوير ، ربما حسبني البعض منهم ضالاً أو معتوهاً . (أرمل) رددتُ مع نفسي . كان للكلمةِ وقعٌ غريب ، ابتسامةٌ عريضةٌ فرضت نفسها على شفتي على الرغم من تشنجِ عضلاتِ وجهي من شدّة البرد وما يفرضه المشهدُ من حزن ، ولكن هل
كنتُ حزيناً حقاً ؟أرملٌ أرملٌ كان للكلمةِ ايقاعٌ جميل في نفسي ، رحتُ أرددهُ كأني أرددُ ايقاعَ بحرِ المتدارك . ثلاثون عاماً مرت وأنا لم أصدّق أنني متزوجٌ فكيف صدقتُ بدقائق معدودةٍ بأني أرمل ؟ هل هي أمنيةٌ مكبوتة استيقظت الآن من سباتها ؟ حياءٌ قاسٍ شدّ أذني كمراهقٍ يستيقظُ من حلمٍ مضاجعة
أمه . أشعلتُ سيجارةً متلذذاً بدخانها مختلطاً ببخارٍ كثيف . - هل أنتَ حزين حقاً ؟ جاءني صوتٌ من جهةٍ ما ، تلفتُّ حولي فلم أجد أحداً فتيقنتُ بأني أتحدثُ مع نفسي . - لا.... لا ... لم أكن حزيناً بل كنتُ أشعرُ بفرحٍ غريب ، ولا أدري كم استمرتْ حالةُ الفرحِ هذي ، لحظةً ، دقيقةً ، ساعة . أأنا الوحيد الذي يعترف الآن بهذا الشعور الذي غمرني واستبدَّ بي وأنا أودّع إلى ثلاجة الموتى امرأةً رافـقـتـنـي ثلاثين عاماً ، قاسمتني السريرَ والرغيف ، البيتَ والرحيل ، منحتني
اللذةَ والأبناء ؟ هنا بدأ الحزنُ يعتصرُ قلبي وربما تأنيب الضمير يحاصر فرحي . - لماذا ؟ التفتُ إلى جهة الصوت فلم أجد أحداً ، شعرتُ بالخوف ، حاولتُ النهوض من المصطبة إلا أن قبضةً قوية أعادتني إلى المكان ، صغطتُ بسبابتيّ على صدغيّ كي أوقف الدوارَ فعادت اليدُ حانيةً
تربتُ على كتفي :
- شعورٌ طبيعي لكنّ ( بناتِ آدم ) يخفونهُ زيفاً وادّعاءَ حياء . هبّ جسدي واقفاً دونما وعي مني ، ولكي اتجنبَ كاميراتِ الزوّار التي حسبتُها مركّزةً عليّ تخترقُ أعماقي وتكشفُ ما يضمرُ لاوعيي المنتعظُ الآن . هرعتُ مسرعاً للدخول إلى كافتريا
المستشفى . وضعتُ كوب الشاي على الطاولة ، تطلعتُ إلى الخارجِ بارتيابٍ وخوف ، وحينما تأكدتُ بأن لا وجود لشخص ثانٍ يجلس على المصطبة حيث أني كنتُ أشعر لحظتتلك بأني شخصان أحدهما يجلس على مصطبة مغطاة
بالثلج وآخر يرقبه بفضولٍ وتـشـف ، جلستُ ارتشف الشاي بهدوءٍ مفتعلٍ وعيناي تحدقان في الأفق المدلهم نافثاً دخان سيجارتي كمَنْ يزفرُ حسراتهِ دفعةً واحدة ، ودونما شعور أخرجتُ قصاصةَ ورقٍ أو فاتورةَ
حسابٍ قديمةً ورحتُ أحاولُ كتابة مرثيةٍ فتذكرتُ بأني كنتُ قبل ثلاثين عاماً شاعراً معروفاً . كفٌ ناعمة نقرتْ كتفي فنهضت جافلاً ، كدتُ أصرخ بوجه المجهول الذي وجدَ بي ضالته إلا أن نادلة الكافتريا التي ارتدّتْ مذعورةً من ردةِ فعلي ، أخبرتني وهي تعتذر
بابتسامةِ شفقةٍ بأن الوقت قد حان لإغلاق الكافتريا . لا أدري كيف مر الوقتُ سريعاً دون أن أشعر ، ولولا القصيدةُ التي اكتملتْ كتابتها لحسبتُ أني قد قضيتُ الوقت نائماً . ما كانت لي رغبة في الذهاب إلى البيت خوفاً من الإمتحان الذي سيدخلني إياه شعوري ليختبرَ قدرتي على الوحدة وفراق زوجتي التي لم تفارقني ليلةً واحدة طيلة ثلاثين عاماً ، لكن جسدي المتعب
لا يطيقُ التسكعَ الليلةَ فللتسكعِ متسعٌ من الوقتِ والحرية في أيامي القادمة . عدتُ أجرُّ خطواتي نحو البيت الذي سيجبرني على مصاحبةِ الأشباح . كان الشارعُ خالياً إلا من وحيدٍ يعود إلى وحدتهِ، والنوافذُ مطفأةً إلا نافذة وحيدة كانت مضاءةً على غير عادتها وظلال امرأةٍ لم تستطع الستائرُ المسدلةُ سِترَ قـلـقـهـا ، إنها نافذة
جارتي الأرملة . حينما ادخلتُ جسدي في رحمِ السرير البارد كلحدٍ طال انتظارُه لي ، وأنا أحدقُ في ظلام الغرفةِ زارني طيفُ الأرملةِ موآسياً بخبثٍ واضح ، اندسَّ جسدها الحار لصقي كشهوةٍ فارعة وصراخٍ
أخرس ، وفجأةً انبجس السراب عيوناً فاغتسل الظمأ بماءِ السراب ....... كانت جارتي الأرملة تعرف طرقاً للمتعة لم تخطرْ في ذهن زوجتي يوماً طيلة ثلاثين عاماً . أغمضتُ عينيّ مستسلماً لوحدتي الـفـاتـنـة . فايله 20/3/2000
|