سيرة جيل كتب الشعر بين الأوقات الضائعة

 فاطمة المحسن  - لندن:  

حميد العقابي شاعر لم يعرف كثيرا بين الناس، ولكن بمقدور سيرة ذاتية يصدرها اليوم ان تعرف به وبجيله على نحو افضل، كتابه الجديد (أصغي الى رمادي) الصادر عن دار الينبايع في دمشق، تتصدره عبارة تقول انه فصول من سيرة ذاتية، يراود القاري سؤال عن أهمية أن يكتب شاعر شاب سيرته، والسيرة الذاتية تنشر في العادة بعد ان تكتمل تجربة أدبية أو اجتماعية أو سياسية، ولكن قراءة هذا النص تحقق شرطا مهما للتواصل، فهذا النوع من النصوص فضلا عن ادبيته، بمعنى توفره على مستوى من الاسلوب واللغة الأدبية الجاذبة، يشكل جانبا من سيرة عراق الحاضر، ويؤرخ الاماكن والبيئات والهجرات والحروب انه كتاب عن وطن كاد مآزق العيش فيه يشبه مشقة الرحيل عنه الى مخيمات اللجوء والتشرد في المدن الغربية، هذا الوطن الذي تحول سجنا، لابد ان يصبح الهرب منه مثل اجتياز مفازة الجحيم، وهكذا هرب العقابي من الجيش ثم من بيته ثم من العراق، ليضطر العيش سنوات في معسكرات اللجوء الايراني، لحين ما استطاع الوصول الى الجنة الصقيعية الجديدة: الدنمارك.
يقيم الكاتب علاقة مباشرة مع قارئه من دون تكلفة، بعد ان يختبر ذاته في حوادث مشتتة تلتقطها ذاكرته من الحي والبيت الصغير، واولها الاعتراف به شاعرا بين الفتيات، قبل الصبيان. ثم يدخل الى الأهم حين يضطر الهجرة وصدمة العيش في الأماكن البعيدة وهو ابن محافظة صغيرة من محافظات العراق الجنوبية.
هي رواية تتطابق فيها هوية الراوي مع هوية بطل القصة، وتلك وسيلة لرفع درجة الامتاع في قصص الحياة العادية، ولكن خيالها يمضي بها خارج حدود التسجيل ليضع الناس الذين يعرفهم في حلة الشخصيات الروائية: أمه، ابوه، الجدة شمعة قابلة الحي، وغيرهم من الابطال، كل واحد فيهم صدى لحياة مرت في موشور الذاكرة فاتخذت هيئات ربما تكون غير ماهي عليه في الواقع، ولكن المؤكد ان كاتب السيرة نجح في اقناعنا بصدق التعامل مع تاريخه الشخصي، وبتخطي عامل الخجل من كشف الحجاب عن بعض ما يخفيه.
يستخدم الكاتب الدراما في حوارية مدهشة مع امه التي ترفض الذهاب لتوديع خاله وهو على فراش الموت، صورة الأم الحنون يهملها الكاتب ليصور لنا وجها آخر هو مزيج من المكابرة والاباء والغضب، مقابل شخصية الأب الضعيفة الطفيلية، وشخصية المرأة بهذا المعنى ليست غريبة في اعراف الذاكرة العراقية، فالمرأة القوية واحدة من معالم البيت العراقي، وخاصة بين اللواتي اكتسبن موقعا اقتصاديا في العائلة. من هنا يحدث الاختلاف، فيمسك الكاتب جانبا من مفارقة الضعف والقوة في الولاءت العائلية، الى الدرجة التي بدا تعلقه بامه اشبه بمحبة اوديبية، وتلك مبالغة خيالية ولكنها بين الاضافات التي تفرط بصدق الحكاية في وقت تعزز جانبها الروائي.
الترجمة الذاتية دائما معرضة الى الانزلاق من الواقعة الى الصورة الخيالية او المتوهمة، وشغل الذاكرة يخضع الى تدخلات الحاضر ووجهات نظره، غير ان من المهم ان يبقي الكاتب قارئه على قناعة بقوله، وتلك الثقة تتولد من خلال التخلي عن رغبة ان يكون صاحب الرواية بطلا، بمعنى البطولة الواقعية لا المجازية، وذلك ما سعى اليه العقابي، فهو لم يكن بطل حكايته، لانه باستمرار صحبة شخصيات أخرى يحكي عنها، وحوادث يقدم فيها صورة انطباعية عن الناس والبيئات.
شخصية (شمعة)قابلة الحي المأذونة، العجوز كارهة الرجال والمتصدية للسلطة، ينشط الجانب المتخيل في سرد قصتها، وهذا لا يقلل من قيمة الذكريات، ولكنه يغربها بعض الشيء، عن جو الحميمية والصدق الذي ينقنا اليه عبر رحلة عمره، في وقت ترجح حكاية ابيه شجاعة الاعتراف عنده، وهي شجاعة يبوح فيها بكراهية دفينة لما هو مقدس في حياة العوائل العربية، كراهية الأب نادرة بين من يستذكر حياته، ولكن ذلك الاختراق لا  يتحقق كما هو متعارف سايكولوجيا، بسبب خصلة معروفة عند الاب العربي، اي ان يكون من المتسلطين او الطغاة، بل هو يرى في ضعف ابيه وتخاذله وقلة تسلطه سببا للكراهية.
والحال ان الكاتب ومن خلال اعرابه عن هذا الجانب من حياته، زاد رصيده في تعزيز علاقة الثقة والامتاع بينه وبين القارىء، فهو هنا يكشف ألم صبي من مجرد اسم والده الذي يبعث على الضحك بين انداده (بزون)وتعني قط بالعربي وهو اسم غير مألوف، انه يروي تلك المشكلة التي جابهته منذ الصغر، على نحو يمزج فيها السخرية بالالم، ولعله يتألق في فصله الجميل هذا كقصاص تلقائي، ولكنه يملك من رشاقة الاسلوب وخفته ما يؤهله التحرك بين الأزمنة وتغاير المواقف.
هو ينهي هذا العذاب الذي اسفر عنه اسم ابيه، بشطبه او الاشارة اليه بحرف واحد في سجلات التسجيل الاوروبية، ولكنه ينتقل عبر الزمان الى لحظة العبور من ايران الى سوريا بعد انتظار ثلاث سنوات، وبسبب الخطأ المتكرر في اسم الاب اضطر الانتظار تسعة اشهر أخرى.
"وصلنا اردكاه خرم آباد فجرا بعد رحلة طويلة مملة، وكان في استقبالنا كائنات لا تشبه الكائنات البشرية الا انها كانت ثم مسخت، اطلت علينا برؤوس شعثاء ولحى كثة ومتسخة، متوجسة خيفة لا استطيع وصفها، وفرحة لأنها ترى ولاول مرة منذ دهر كائنات بشرية قادمة من الدنيا، هذه الكائنات المنسية سميت ب (المعاودين) حتى هم انفسهم كادوا ان ينسوا اسماءهم مكتفين بهذا الاسم، عائدون الى أين، وقادمون من أين؟ انهم لا يعرفون سوى انهم عراقيون من أب وجد عراقيين، وجدوا انفسهم يوما محمولين في شاحنات رمتهم على الحدود العراقية الايرانية بحجة انهم ايرانيون".
يلتقط المؤلف من تلك المعسكرات الكثير من القصص، حكايات الجنون وعناد الانسان ومعاركته الحياة، كيف بمقدوره طرد اشباح اليأس بالقراءة وتبادل الكتب وكيف تضيق به تلك المخيمات لتتحول الى معارك وجبهات، الهرب او الانتحار او الجنون احد معالم تلك السجون الشرسة التي تسمى معسكرات لجوء.
لعل فصلي الحرب ومعسكرات اللاجئين العراقيين في ايران، من بين أكثر الفصول براعة في نقل (التاريخ)على هيئة سيرة، كل الذين كتبوا عن الحرب وضعوا وقائعها على هيئة قصصية، ولكن التوثيق هذا يجعل منها سجلا من سجلات حياة جيل سحق بلا رحمة بين رحى حربين شرستين. الشباب العراقي الذين ولد في ستينيات القرن المنصرم وبينهم العقابي، باغتتهم الحرب العراقية الايرانية، ولم يكن اكثرهم قد مارس بعد وظيفة او تزوج او رأى الحياة، فسيقوا الى الجبهات التي اعتمدت في البداية على خطط متخبطة راح ضحيتها اعداد كبيرة من خريجي الجامعة والثانويات الذين يجهلون فن القتال ولكنهم وضعوا على جبهات الحرب الامامية.
ولكن الحرب تبقى هي الحرب، مثل كل الاوصاف التي يعجز القلم تسطيرها، تتعب الذاكرة في استحضارها ويتعب القارىء معها، انها تتمثل بمعادلة حديها الموت والاندحار، اندحار الآمال والهدوء والطمأنينة في عمر من يخوضها.
ريحها ريح الشيخوخة والافول: الموت هذه الكلمة المرعبة لم تعد تخيفني مذ نقلت الى الجبهة في الشهر الثاني من بدء الحرب، لا بسبب شجاعتي بل بسبب يأسي ورغبتي في الموت خلاصا من حياة لا توصف بالتفاهة، فالتفاهة مديح لا تستحقه حياة الجندي العراقي المدفون في جحر ينتظر رصاصة الرحمة يهديها اليه تافه آخر في حرب لا ناقة لهما فيها ولا جمل".
يستيقظ صباحا في معركة ينام فيها داخل الدبابة التي يقودها، وهي استراحة لاارادية يدافع فيها الجسد عن حياته، فيصف ما تبقى من معركة البارحة، انها فصول دانتي الجحيمية، حيث تصم السماء اذانها من وحشية الحرب وبشاعتها، هكذا يتجمع الحزن قطرة قطرة، من الحي الذي يعود اليه في روايته المتخيلة ليلتقي بالصبية التي كانت تنتقل بفاكهة جسدها في زقاقهم دون خجل، الى ساعة الشؤم التي يشهد فيها منظر ذبحها، وصورة الأب المصروع بوحشة شرفه، الى جبهات الحرب، الى مذبحة السجن الشهيرة في مدينته، الى وحشة الاسلاك الشائكة والحارس الفظ والبحث عن الخلاص.
انها رحلة الحزن العراقي ومزاميره التي لا تتعب من النواح.

جريدة الرياض  - 3 / 10 / 2002

>>