فوزي كريم
الجيل الذي ولد أو نشأ في الستينات ونضج في الثمانينات من
العراقيين، قطع زمنا لا تجاريه أكثر المستنقعات عفنا وقساوة.
أخذ الشاب الصغير من بالونة أحلامه، التي أعطتها موهبته وشغفه
بالمعرفة ألوانا غريبة، وألقي عنوة في معتقل العقيدة
العمياء، ومعتقل الرعب من السلطة الغامضة، ومعتقل الحرب التي
تبدو لا نهائية، ومعتقل الأمل المستحيل بالهرب.
مخاضة الدم السوداء هذه بدأت تجد من يؤرخ لها هذه الايام. فهناك
كتب صدرت وأخرى ستصدر تعتمد استعادة «الذاكرة» وحدها أما «المخيلة»
فستستجيب دون عنت. لأن ما حدث للعراقي في هذه «الذاكرة» يفوق كل
اجتهادات «المخيلة» الابداعية.
الشاعر حميد العقابي يصدر نصا أشبه بسيرة ذاتية. والذاكرة فيه
أكثر غنى واحتراما من أن تحجم، فتفلت الى المخيلة الروائية،
والمخيلة الشعرية ولكن كل هذه العناصر تنتصر لما حدث في «الحياة»،
ولا تحتاج الى مغادرته الى قلعة «الفن». إن ما حدث ليبدو مروعا حتى
لو جاء على لسان عامي. فكيف وقد استعاده شاعر على هذا القدر من
البراعة والعفوية والرغبة البريئة باستخراج معنى مما حدث.
كتاب «أصغي الى رمادي: فصول من سيرة ذاتية» (دار الينابيع ـ دمشق)
يبدأ مع الشاب الصغير وهو يطمع بقراءة «الوجود والعدم»، اكثر
كتب سارتر تعقيدا، لا لشيء إلا ليعزز قلبه العاشق لابنة
الجيران بمزيد من الوهم. ولكن سرعان ما يشيخ الشاب الصغير
ويهرم بعد بضع صفحات لنجده في إحدى مدن المنفى الدنماركي
الباردة الموحشة. من هناك يبدأ الكتاب استعادة ما حدث وكأن
الكاتب يريد أن يطل على ذاكرته من هذه الزجاجة الدنماركية
الباردة الموحشة عن عمد، لأن محتويات هذه الذاكرة تليق بهذه
البرودة والوحشة.
يروى أن تولستوي كان يصغي الى الرباعية الوترية الثانية
للموسيقي تشايكوفسكي. ومع الحركة المتهادية الثانية انحدرت
دموعه وهو يتمتم: «أحزينة روسيا الى هذا الحد!». لا بد ان كثيرين
مثلي سيصغون مع حميد العقابي الى رماديه وستحاصرهم دموعهم: «أحزين
عراقنا الى هذا الحد!»، لأن الدموع بفعل عمل الفن لا تفيض
لبكائيته أو لتشنجه وعويله، بل على العكس، تفيض بمقدار ما فيه
من لا مباشرة، وشفافية تأمل، وتحاش لردود الفعل، وتجرد من
الكراهية التي تمليها القناعة العقائدية الثابتة، والحذر من
تورم الأنا البغيضة، والاطلالة المشفقة على الكائن الكسير
حيث يكون لونه وانتماؤه، ومن دعابة هي ثمرة كل رحابة القلب
المحب المحزون.
النصوص التي كتبها حميد العقابي تعود جميعا الى 1996، باستثناء
مقطوعات تسبقها أو تلحقها، وهي قليلة، تعتمد مادة السيرة
الذاتية، تغتني بها، ثم تندفع حرة الى السرد القصصي المشبع
بالخيال. لأن من أبرز ما يتركه هذا السرد القصصي لدى القارئ هو
شخوص أساسية تشكل محاوره مثل «بزون» (والد حميد) وأمه، ومثل «شمعة»
القابلة، وسمير الرسام، والشيخ حميد.. وبالرغم من توزع هذه
الشخوص على فصول إلا ان الخيط الخفي الذي يربط التاريخ
بالاسطورة هو الذي يوحد بينها، ويضعها في أفق عراقي مغلق لا
يشبهه أفق حميد (المؤلف)، الذي يقطع مخاضة الأحزان دون فاصل
استراحة، من لوعات الحب الذي لا إنجاز لرغائبه، مرورا بسنوات
الحرب (العراقية ـ الايرانية) التي تشبه فصولها فصول الجحيم
لدانتي، ثم سنوات الأسر والهرب الى المنافي الملساء بلا
تفاصيل، حتى استراحة المحارب دون إرادة، يجد ان أذى كهذا يضيق
بالتاريخ، ولوعة كهذه تبرئ الكائن من درن الأرض لترفعه الى
الاسطورة، الى تجاوز الزمن. ولذلك يبدو الشيخ حميد في الفصل
الأخير، داخل مصح للعجزة في الدنمارك، يجمع بين الحكمة
الخالصة والتحرر من الزمن. يعود الى محلته الصغيرة في محافظة
الكوت في الجنوب العراقي، ليجمع خيوط ماضيه ويسلمها لقبضة
الاسطورة. يعود كما تعود شخوص ذاكرته بحرية، وكأنها داخل حيز
خال من الزمن تماما. الجاذبية الوحيدة فيه هي جاذبية الأسى
والاشفاق.
المؤلف يؤرخ لماضيه ولمستقبله لجيل داهمته، أول الشباب، عجلة
غامضة هرست جسده وروحه ورمت اشلاءه للريح، تماما كما رميت
اشلاء أورفيوس مع قيثاره:
«حينما أرحل، سوف أترك الستائر مسدلة، اصص الزهر عند النوافذ
عطشى يغطيها الغبار، وسأهدي جارتي العجوز سريري ومنضدتي
ومقلاة البيض الصدئة، ومن النافذة سأنفض عن شرشفي ما قد علق
فيه من سخام الظلام وصرخات الأرواح التي أزهقتها ثم أرميه في
مزبلة رطبة. سأقول وداعا للذكريات التي أوهمتني الجدران
بحفظها... سأغفل مكتبتي وأهرب من عيون القصائد ساخرة ثم اهبط سلم
البناية دركة دركة الى شارع ليس يعرفني... ربما سوف يكتشف الجار
رائحة غيابي فتقتحم الشرطة شقتي الفارغة ليروني ـ كما كنت قبل
الغياب ـ نائما بعينين مفتوحتين، وعلى شفتيّ ابتسامة سخرية
مثل أمنية خائبة».
الشرق الاوسط 19 /09 / 2002