أصغي إلى رمادي لحميد
العقابي:
فصول لأكثر من جنس أدبي،
وسيرة ليست ذاتية تماماً..
أغلب الظن، وليس في بعضه شيء من الإثم هنا، إن
الشاعر حميد العقابي وهو يصدِّر كتابه ( أصغي إلى رمادي ـ
بعبارة لاحقة وفرعية : فصول من سيرة ذاتية) لم يكن واثقاً من أنه
كتاب سيرة شخصية، تنحو المنحى الشخصي الصرف المعهود في أدب
السيرة العالمي والذي بدأ يشكل إرهاصات لجنس أدبي في الثقافة
العربية المعاصرة. فقراءة نقدية لهذا الكتاب، الممتع، لا
تجعلنا نخرج بحصيلة سيرة ذاتية تامة، ولا حتى شخصية خالصة!
ورغم أن المعتاد في كتابة السير ارتباطها بمرحلة
معينة من العمر ـ التقدم في السن على الغالب ـ لكننا
بدأنا نلمحها في كتابة الأدباء المنفيين والذين يعيشون خارج
أوطانهم وهي تنحو منحى آخر فهي ليست سيرة شخصية بالمعنى الكامل
لكنها محاولة لتدوين شهادة عن الماضي القريب الذي يبدو وكأنه
واقعةً ووثيقة في الآن نفسه.
وفي هذا السياق يأتي كتاب العقابي الذي صدر مؤخراً عن دار
الينابيع في دمشق، فالفصول التي سعى الكاتب إلى توثيقها هي ما
أمكنه جمعه من شتات الذاكرة المتشظية والمتعبة بفعل عوامل
الزمن الكثيرة التي مرت عليها.
فمن أجواء الطفولة التي عاشه الكاتب في مدينة (
الكوت) أول الجنوب العراقي، حتى مرحلة الشباب الأولى في أواخر
الستينات حيث بداية الاعتقالات السياسية التي عاشتها
المدينة كغيرها من مدن ومحافظات العراق الأخرى، وبمزج بين
الواقع والخرافة، يدون العقابي مناخات مرحلة أسست لأشياء
كثيرة حدثت فيما بعد، ليصل إلى شهادته عن الأجواء التي عاشها
في السنة الأولى من الحرب العراقية الإيرانية حيث اقتيد إلى
الجبهة، وشاهد كيف يموت أصدقاؤه فرادى أو بالجملة في حرب لا
يؤمنون بها أو بأهدافها غير الواضحة.
تبدأ السيرة من مكان، صغير( مدينة الشاعر في واسط)
وتنتهي في عزلة مفترضة في مصح بإحدى المدن الدانماركية حيث
يقيم الكاتب حالياً، وعبر كاميرا قديمة بالأسود والأبيض يبدو
العقابي أكثر حرفية، وربما أدق تعبيراً عن تداخلات الأحداث
وأشمل رصداً لها، من وصف الحياة التي تمر على مقربة منه
راهناً، كأن الطفل بتأويلاته التلقائية لما حوله، وكونه غير
محظور في حلقات النساء وأحاديثهن عن الجنس مثلاً، وشاهداً على
إرتكابات شتى، هو البطل الحقيقي لتلك السيرة الجماعية لسكان
المدينة، حتى أن الكاتب يبدأ بالتراجع عن سرد سيرته الشخصية في
الفصول اللاحقة لصالح تحليل شخصيات أخرى، وسرد سيرها، وكأنه
يقول إنها أكثر غنى من سيرته اللاحقة، للتحول الذات إلى مرآة
محتشدة بتجارب آخرين وملامح متداخلة لشخصياتهم، هذا النقطة
بالذات سنراها تبرز بشكل خاص في فصل (عادل العرس) والرسام
والفراشة، و( اللحى) وهو الفصل الخاص بتجربة اللاجئين
العراقيين في الأوردكاه ( المعسكرات التي أقيمت لهم في إيران
خلال الحرب العراقية الإيرانية سنوات الثمانينات.)
وفي عالم الهروب من الجحيم يسرد الكاتب معاناة
من نوع آخر.. معاناة العراقي الذي يعيش خارج وطنه مرغماً تحت
وطأة ظروف وتقاليد وبنى مختلفة لا يستطيع التلاؤم النهائي
معها ومن هنا يأتي الاستذكار للعالم القديم الذي عاشه في الوطن
وكأنه الفردوس المفقود الذي يتطلع للعودة إلى زمنه الضائع من
جديد رغم البعد الجحيمي الواضح الذي تكتظ به فصول الكتاب.
الشخصيات في الفصول الأربعة عشر لهذا الكتاب شخصيات
حقيقية عاصرها الكاتب رغم هالة السحر والأجواء الغامضة التي
أحاطت بعالمها ومصائرها وخاصة شخصية الجدة شمعة التي تختلط
فيه الفطرة العراقية بذكاء وتجربة غنية جعلت منها واحدة من
العلامات في مدينة الكوت إلى جانب السدة والنهر كما يؤكد
الكاتب في أكثر من مكان بكتابه.
شمعة ( امرأة تجاوزت الزمن) و( ثلاثة أشياء لا تختفي من هذه
المدينة: السدة والسجن والجدة شمعة) هاتان العبارتان تتكرران
ففي مواضع عدة داخل فصل الجدة شمعة( والجدة هنا تسمية عراقية
للقابلة التي تمارس مهنة التوليد كمهنة حرة) ولعل في طبيعة
شخصية الجدة شمعة ما سيجعلها بحق البطلة الأصرح للسيرة التي
دون من خلالها العقابي شهادته عن مدينة كاملة وظروف سياسية
واجتماعية ملتبسة عاشها العراق نهاية الستينات، ثمة بعد
استثنائي في هذه الشخصية المركبة من عناصر فولكلورية ووعي
فطري حاد، ممزوج بماء الخرافة الذي يسكبه أهالي المدينة على
هذه المرأة التي تراقب العالم بعين واحدة ( بعد أن انتزع البكاء
عينها الأخرى في مجالس العزاء الحسينية) فترى ما لا يراه
الآخرون بعيونهم جميعاً، مما يذكر بقوة ببطل هنري باربوس،
ويعيد السؤال من جديد حول الملك الأعور في بلد العميان، أو
المتعامين عما يجري حولهم من أحداث، فهذه الشخصية التي تكرر
مقولة( أيها الأغبياء من لم يعرف يوم ولادته لن يعرف مستقبله)
للفت النظر إلى أهمية مهنتها، نراها وهي تعرف أيضاً مواعيد
بلوغ الصبيان والفتيات في المدينة، وهي منذورة للأولياء (
الخضر تحديداً) في إحدى إشاعات أهل المدينة وعشيقة الزعيم عبد
الكريم قاسم، الذي يزورها في بيتها خفية بعد مقتله لتدبير
محاولة انقلابية جديدة يعود بها للسلطة في إشاعة أخرى! ومتهمة
بالشيوعية في الوقت نفسه، وهي مستودع الأسرار الجنسية للنساء
اللواتي يعانين الكبت، ولم يعرف أحد في مدينة (الكوت) سبب
اعتقالها المفاجئ ولا عودتها واختفائها الغامض من المدينة،
فيما بقيت قصصها، والأحاديث عن رؤيتها في المدينة، هي أحاديث
النساء اللواتي أكلتهن العنوسة وهن يتحدثن عن الجان الذي صحب
الجدة شمعة في رحلة غامضة!
يبدأ الكتاب، بتلخيص لأزمة العلاقة بين الكاتب والحياة،
بين البطل الذي لم يختر مصيره وما حوله من بشر يرون فيه كائناً
يستحق الشفقة، حيث يمر في زقاق المحلة متأبطأ كتاب الوجود
والعدم، وأوهاماً أثقل بتغيير العالم لكنه يسمع فتاة في
الطريق المؤدي إلى منزله، تخاطب صديقتها: إنه شاعر، وكأنها
تقول يا للمسكين، أو على الأقل هذا ما يخبرنا عنه مآل الأحداث
التي واجهها ( الشاعر) لاحقاً.
يمكن اعتبار ما كتبه العقابي نوعاً من السيرة النقدية
التي تحاول مراجعة الماضي، وإعادة مساءلته لاحقاً ولعل في
الابتعاد الزماني والمكاني عن هذا الماضي ما يعطي برهة جيدة
لهكذا نوع من السير، لكن الملاحظ هنا، غياب أو لنقل خفوت
النبرة الاعترافية في فصول الكتاب، وإذا استثنينا فصل ( بزون)
وهو اسم والد الشاعر، فإننا لن نجد أية ملامح اعترافية مضافة
وهو ما يطرح سؤالاً كبيراً حول السقف ـ الإخلاقي ربما ـ الذي ما
زال يحكم طبيعة هذا النوع الوافد من الكتابة، ومدى مقاربته في
الأدب العربي.
(بزون) الذي شكل نوعاً من العقدة لحميد الطفل والصبي وحتى
الرجل، وكان مصدر تهكم في المدرسة ومعسكرات اللجوء والأوساط
الأدبية! سيلغيه العقابي من أوراقه الرسمية فور وصوله
للدانمارك، لكنه يعود هنا ليجعله مادة أدبية ممتعة، فيتحول
مصدر التهكم إلى مصدر إلهام، بعد أن وجد في الطبيعة السلبية
لتلك الشخصية ما يمنحها علامة فارقة ستتكرر في شخصية الكاتب
نفسه، حتى أن الذكرى السيئة التي يحملها عن أبيه ( بزون)
باعترافه : ( حميد جاء بالغلط)، ستصبح نوعاً من القصاص الأوديبي
الذي يواجهه الكاتب وهو يرى طفلاً له، بالمصادفة، مع المرأة
التي جمعته معها ليلة عابرة في أوربا، ولم يشعر إزاءه بأي نوع
من الأبوة!
الكتاب بمجمله يركز على الأشخاص الهامشيين، فيجعل من
ثراء تجاربهم الحياتية، نوعاً من الكارزما البديلة عن الظل
والهامش الذي عاشوا فيه، فالروائي المفترض، الذي يكرر في
معسكرات اللجوء في إيران بأنه سيكتب أهم رواية في العالم بعد
وصوله إلى الدانمارك، ويعلق على أعمال ماركيز بنوع من
الاستهانة والأستذة بالقول: ( إذا استمر يكتب بهذا المستوى راح
يسوي شي) هذا الروائي ( المسكين هو الآخر) يعاد اعتقاله بعد كل
محاولة للوصول إلى الدانمارك، عن طريق الموانئ الإيرانية
والحدود الأفغانية والباكستانية! لكنه يصل الدانمارك أخيراً
عن طريق الأمم المتحدة، ويموت وحيداً وغريباً لا يعرفه أحد،
تاركاً ورقة وحيدة على آلة كاتبة قديمة لم يكتب عليها طيلة
شهور، وربما سنوات، سوى العنوان لروايته المفترضة ( الاغتيال
الثاني). هذا التحقق الروائي من خلال السيرة الشخصية لعادل
العرس، سنراه يتماثل مع الرسام الذي ينتحر، حاملاً إثماً لم
يستطع تحمله لأن امرأة، كانت تنام معه، أسكتت طفلها في لحظة
النشوة بإحدى يديها، بينما أمتلأ هو بالمرارة التي ظلت تسكنه
حتى انتحاره.
صورة الهامشي المضيء ستبرز أيضاً في المعتقدات التي تشيع
في مدينة الكوت، وتثير جدلاً واسعاً، وتتلخص بأن جسر المدينة
لم يصب من قصف الطائرات خلال الحرب العراقية الإيرانية لأن أحد
الأولياء ( سيد مالك) مشى عليه بصحبة محافظ المدينة، وهي رواية
شاعت آنذاك بين عموم المواطنين العراقيين وكانت مثار جدل
لعلاقة الولي بالسلطة!. ستبرز هذه الصورة أيضاً في (الأوردكاه)
الذي يضم هاربين من مختلف الأقليات والشرائح وهم يبتكرون
صوراً لأضحية رمزية تؤجل انتحارهم وتعللهم بخلاص، وهو خلاص
عادة ما يتبناه أشخاص ذوو لوثات يدعون الكرامات، وسط أجواء من
الحصر وغروب الأمل.
القصيدة ملاذ أخير!
يضمن العقابي فصول السيرة، قصائد شعرية تتداخل مع الفصول
وتستقل عنها أحياناً، والعقابي الذي أصدر خمس مجاميع شعرية
سابقة، أخرها قبل نحو عشر سنوات، بدأ وكأنه لا يجد مكاناً لهذه
القصائد في ديوان قادم، بل إنه يعترف إنه لم ( يجترح سوى مرثيتين)
خلال سنتين، وتضمين القصائد، بدا مقحماً غالباً، إذا ما
استثينا قصيدة (ما سيحدث حتماً) التي أنهى بها فصول السيرة، بعد
فصل لكابوس مرعب، قدمه من خلال حياة مصورة، أو مكوبسة، يعيشها
افتراضياً في الـ (plejejem ) وهي دار
للعجزة في الدانمارك، وأهمية القصيدة هنا وتلازمها العضوي مع
هذا الفصل الذات، تأتي من كونها طوق النجاة الذي يتمسك به وسط
أمواج مرعبة من التصورات حيث يتداخل فيها الزمن، ويختلط
الهذيان بالمخيلة الجارحة، واللغة الأم باللغة الأخرى،
وتحضر صورة الجدة شمعة، وجسد سهام الفتاة التي رأى والدها،
قصاب العجول، يقتلها أمام الجموع في مدينة الكوت كما يذبح عجل
العيد، وتسيل أمامه مجدداً دماء الأصدقاء في معارك شرق البصرة
خلال حرب الخليج الأولى، فتصبح القصيدة معادلاً لاستعادة
التوازن، التوازن المطلوب لمغادرة هذا الكابوس الذي
يطارده في عزلته الاسكندنافية، مغادرة يراها الشاعر حتمية
سواء بالرحيل الفيزياوي وترك هذه المدينة، التي أصبحت
معادلاً لدار العجزة، أو بالرحيل النهائي عن كل مكان: بالموت.
وينتبه العقابي، إلى إعادة تشكيل القصيدة، مرة بالتدوير
الذي يقربها بصرياً من النثر، وأخرى بالتقطيع الإيقاعي الذي
يقدمها شعراً:
(حينما أرحلُ، سوفَ أتركُ الستائرَ مسدلةً، أصصَ الزهر
عند النوافذِ عطشى يغطيها الغبارُ/ وسأهدي جارتي العجوزَ
سريري ومنضدتي ومقلاة البيض الصدئة، ومن النافذة سأنفضُ عن
شرشفي ما قد علق فيه من سخام الظلام وصرخات الأرواح التي
أزهقتها ثم أرميه في مزبلة رطبة، سأقول وداعاً للذكريات التي
أوهمتني الجدران بحفظها، وللوجه الذي تخفى في غبار المرايا..)
( أصغي إلى رمادي) كشكول لأكثر من جنس أدبي، تتراوح
فصوله بين القصة والشعر، والشهادة، أما السيرة فهي الجزء
المضمر منه، وهو ما يؤشر نزعة القلق الإجناسي الذي صرنا نرصد
إرهاصاته الكثيرة في الأدب العربي راهناً.
محمد مظلوم ملحق " نوافذ" الثقافي في جريدة المستقبل في 10 / 8 / 2002