النـادلــة |
حانةٌ تكتظ بالأشجار ( لا أعني سيقان الفتيات ) فهي وأن كانت مكتظة بصبايا عاريات ، سيقانهن مكتنزة يستطيع المرء سماعَ خطوات النار وهي تجري في الأنساغ إلا أني
أعني هنا أشجاراً حقيقية أو هكذا بدا لي المشهدُ حينما دخلتُ الحانة أول مرة حتى أني أسميتُها ( حانة عـبـقـر ) لأني كنتُ أذهب إليها كلما شعرتُ بإرهاصات قصيدة جديدة . نهود عابثة كثيرة اصطدمتْ بوجهي وصدري
وأنا أخترق الزحامَ من البار وحتى الطاولة المتـفـردة بسكونها في الركن عند النافذة ، هناك انتبذتُ مكاناً في عتمةٍ تخترقها نبلةُ شعاع أحمر فتضيء سطح الطاولة . فـتـحـتُ أزرارَ حيطتي وتـوجس الدقائق
الأولى الذي يستبد بي كلما دخلتُ ( أنا الغريب ) إلى حانة لا أعرف روادها ، وباسترخاءِ مسافرٍ يضع رحلهُ رحتُ أرتشف كأسي بكبرياء متجاهلاً السيقان والنهود والقبلات الشبقية التي كان يتبادلها الراقصون ،
أحدق من نافذة الحانة إلى نافذةٍ مضاءةٍ في أفق أوهامي وأصغي إلى أصوات البحّارة في الميناء وهم يتراشقون بكلمات بذيئةٍ وشتائم موجهة إلى اللا أحد . مرتْ بقرب طاولتي صبية كاشفة عن ساقين بضّين يضيئهما شرر الشهوة فـتـسـاقـطَ علي رذاذ له لزوجةُ الدم ، ولكي أخرج من دوامة الهياج ، أشرتُ إلى النادلة لتجدد لي
الكأس . ملأتِ الكأس وبأطراف أصابعها أزاحتها باتجاهي مشيحة بوجهها عني بغضبٍ لا معنى له . "لم تـعـدْ نـادلـةُ الـحـانـةِ كـالـسـابـقِ لـكـنْ لـم يـزلْ لـلـخـمـرِ طـعـمُ الخـمـر رددتُ مع نفسي محاولاً تجاهل سلوك النادلة الـفـظّ ، غير أنها بعد خطوتين باتجاه البار توقفتْ كأنها تذكرتْ أمراً فعادتْ إلي وبنظرةٍ صارمةٍ قالت وهي تمسك خصرها بوضعِ تحدٍ: " لأن الندماء لم يعودوا من رحلتهم بعدُ والنوء ينذر بالخطر " لم أعِ ما كانت تعنيه ولم أدركْ أسباب غضبها عليّ وحدي ، لكني حاولتُ أن أمثّل دورَ العارفِ بأسرارِ الحانة وروادها فـسـألـتـها وأنا أزيح نظارتي على أنفي بحركةٍ تـشـيـر إلى الجد
والاهتمام : " والسيد نوح ، ألم يعدْ بعد ؟ " " أتعني نوح الأعمى ؟" " لا أدري إن كان أعمى فأنا لم أرهُ من قبل " تغيرتْ ملامح وجهها فأشرق بودّ ممزوج بالشفقةِ على رجلٍ أضاعَ فرصته ، ثم قالت: " كان هنا بالأمس ، وقد كان حزيناً لموتِ ببغائهِ ، وقد شربنا بغيابكَ نخبَ وداعهِ " وحينما رأت الخيبةَ قد ارتسمتْ على وجهي قالت لي مـتـشـبـثـةً بخيطٍ من أملٍ واهن : " بإمكانك الذهاب إلى بيته ربما حالـفـك الحظ فـتـحظى برؤيته قبل الرحيل " وقبل أن أسألها عن موقع البيت أشارتْ إلى النافذة المضاءة في أفقِ أوهامي . 25/9/1997 فايله
|