.... رأى ما رأى |
" غابةٌ ... لا ، ليست غابةً ، شواخص منتصبة كـأشجارٍ سودٍ كثيفةٍ تنزفُ دماً غزيراً ، بابٌ مغلقٌ بدماء مقروتةٍ ، فتحتُه ربما كان سهواً أو بتحريضٍ من أحد فاندلقَ طوفانُ دمٍ جرفني معه قاذفاً بي إلى
اللامكان ... تلفتُّ فوجدتُ الدمَ وقد أغلق الباب تماماً فلم أستطع الرجوعَ إلى حيث كنتُ . حيرةٌ والفراغ اصطبغ بلونٍ أحمر ، الأشجار قاماتٌ من دماء تحيطُ بنهر دمٍ ، دمٌ يقطر من رأسي ، من أهدابي فيلوّنُ
الرؤيةَ بلونهِ ، حاولتُ الهربَ إلا أن كفّاً معروقةً قاسيةً أمسكتْ بخناقي وحينما صرختُ مستغيثاً لم أسمع سوى صدى صراخي مختلطٍ بضحكاتٍ مدويةٍ وزغاريدَ شامتةٍ ، حاولتُ التملص باحثاً الهواء بقدمي ولكن
إلى أين ها أنا أرى العالم مقلوباً وعجوزاً جاحظةَ العينين تكممُ فمي ، " واللهِ العظيم بريء " صرختُ ولكن ......" ويصمتُ علوان الهِبل ماسحاً بكمّ دشداشتهِ الزبدَ الذي ملأ شدقيهِ وتطايرَ على وجوهِ المتجمهرين حوله مصغين إلى ثرثرته المعهودة . يتراجع إلى الخلف بخطواتٍ وئيدةٍ وعيناه جمرتان
تنفثان غضباً في وجوه الناس كأنه يستعدّ للنطّ لكنه يقف بذهولٍ مـتـلـفّـتاً بوجلٍ ثم يطلق ساقيه هارباً في كل الاتجاهات ، تلاحقه قهقهاتٌ رعناء وحجارة يرميها الأطفال خلفه ، حتى
يتلاشى مثل طيفٍ أومثل سؤالٍ مبهم .
" لابد من سرّ أو حكايةٍ وراء جنون علوان " هذا ماكنتُ أرددهُ مع نفسي ولكني لم أجد جواباً حيث أن الذين عرفوه منذ طفولته كانوا ( على غير عادتهم ) يكتمون سرّ جنونهِ ولا يذكرون عنه سوى أنهم هكذا وجدوه وربما ولِدَ مجنوناً ، وبقي
علوان المجنونَ الوحيد الذي لم يثر كغيرهِ شهيةَ الناس في المدينة لابتكارِ له قصة حبٍ فاشل أو أسطورة يتناقلونها بينهم فصار مثاراً للشفقةِ والخوف والإشمئزاز أحياناً .
مرةً وبعد أن أكمل علوان سردَ قصةِ طوفان الدم واتهامه بقتلِ الأشجار والكفّ المعروقة التي أمسكتْ بخناقهِ ، طلبَ منه أحدُ الواقفين بلهفةٍ وتملقٍ مصطنعين أن يكمل القصة ، وحينما رأى
في عيني علوان الاستنكارَ والاستغرابَ من بلادةِ السؤال ، حاول السائلُ أن يوضح باهتمامٍ أشدّ بلادةٍ فسأله عمّا إذا اقتادوه إلى السجن أو المنفى بعد إلقاء القبض عليه ، عند ذاك أطلقَ علوان ضحكةً أرعبت
المتجمهرين ثم سمّر عينيه الـمـتـقـدتـيـن بوجهِ السائل الذي تراجع إلى الوراء خوفاً ، وبعد لحظاتٍ من الصمت ، أجابَ علوان وهو يرتعش : " أيها العاقل ، وهل ترانيالآن طليقاً ؟ " 30/7/2000
|