زاهدٌ ببهجة المنفى
ربما لا يوجد بلد فيه من الشعراء كما في العراق. ولن يستطيع اي متابع أن يعدّد الشعراء العراقيين في الداخل او الخارج، اذ سيكون مقصّرا دائما في بلوغ ذلك المستحيل. وسيلقى العتب الهجوم من هنا او هناك من شاعر او جمع شعراء لعدم اشارته اليه او اليهم.
الشعراء العراقيون لفحتهم نار العشيرة ايضا فتفرقوا اجيالا، وفي الاجيال فرق وشيع، كل يرى الحق بجانبه، باستثناء نفر قليل من المبتعدين عن تلك التصانيف وهؤلاء ايضا يتكتلون بعزلتهم كفرقة ناجية.
حسناً.
في مربّع الشعر برسمة سجادة المنفى العراقية سنلقى شاعرا كتب الشعر منذ 30 عاما من دون ضجيج ليثير الانظار بكتابه الاخير الذي قال فيه حياته بصدق نادر.
فقد غادر الشاعر حميد العقابي العراق قبل 21 عاما عبر الحرب الاولى. وهو من جيل يصفه هو واقرانه بجيل المنفى، اذ بدأ الكتابة، كما يذكر العقابي "في النصف الثاني من السبعينات ولم ينشر (داخل العراق) سوى بضع قصائد ولكن الاحداث قد انضجته. ولقد نشأ بحساسية تختلف عن حساسية شعراء بداية العقد الذين فرضوا (لاسباب محض سياسية ناتجة من المزايدة بين طرفي التحالف المتناقض بين الاحزاب السياسية في فترة السبعينات) على الملعب الادبي العراقي ولما يكملوا عدتهم الفنية بعد".
مر بتجربة الاسر ابان الحرب العراقية ــ الايرانية وعانى في صحبة صديقه الشاعر جمال مصطفى مرارة تلك التجربة لسنوات حفرت ايامها في سني حياته وكتاباته التي كان آخرها مذكراته المهمة والمليئة بالجرأة والصدق، "اصغي الى رمادي" والتي صدرت في دمشق عام .2002
كان خيط الامل الذي تشبث به في ايران هو الانتقال الى سوريا التي فيها سيصدر معظم مجاميعه الشعرية، لينتقل بعدها الى الدانمارك حيث يقيم الان وتحديدا في مدينة فايله التي عادة ما يذكرها ازاء تاريخ كتابة نصوصه فجعلنا نقرن تلك المدينة الدانماركية به وبالعكس.
يرى الى تأثير المنفى على الشاعر بأنه قد منحه حرية مراجعة الذات بحياد لم يتوافر له في وطنه، متخلصاً من عقدة الخوف من الرقيب الذي استهدفه جسديا وروحيا، وقد ساهم المنفى (الاوربي في شكل خاص) بمنح هذا الجيل فرصة الاطلاع على الفكر الغربي من منابعه في شكل مباشر، وتلمس جذور هذا الفكر بممارسة حقيقية لا ادعاء، على ما يؤكد العقابي، ويضيف أن جيل المنفى استطاع ان يمتلك حرية النظر الى تراثه بمعزل عما تفرضه السلطة السياسية او ما تفرضه القوالب المدرسية الجاهزة التي شبّ عليها، مع ما يتركه الحنين والاعتزاز بالهوية من مراجعة مستمرة للذات عبر التراث الفني فكريا وروحيا.
الشاعر حميد العقابي عاد الى كتابة قصيدة التفعيلة، مثله مثل عدد من شعراء عراقيين بدأوا الكتابة بها ثم جرّبوا النثر في كتب شعرية شهدتها العشرون عاما الماضية وهي ظاهرة لها دلالات لاشعورية، كما أظن، نظرا الى رسوخ شعر التفعيلة في لاشعورهم، منذ بداية كتاباتهم الشعرية، وربما كتبوا به من دون ان ينشروا بعض النصوص الموزونة تلبيةً للحنين الى تلك الجملة المموسقة ظاهرا وباطنا، وهو واضح في نصوص حديثة لشعراء مثل كمال سبتي ومحمد مظلوم وحميد العقابي الاخيرة وحتى شاكر لعيبي الذي ابتكر، بحيلة لاشعورية، ما سمّاه قصيدة النثر المقفاة في ديوانه الاخير "الحجر الصقلي" الصادر عام 2002 .
كلمة "شاعر" جرّت على حميد العقابي خيبات حياتية، وربما ندماً، وجرّت عليه العيش خارج منطقة السائد من الايام ايضا. وغير ذلك جرّت نضجا في الكتابة وصدقا كان ولما يزل امينا له.
يقول في كتابه الاخير عن حياته في المنفى: ثلاثون عاما مرت وقد اصدرت العديد من المجموعات الشعرية ولكني لا استطيع احصاء الخسارات التي سببتها لي عبارة انه شاعر. خسرت المستقبل الباهر الذي كان يتوسمه الاهل بي، وحرمت الجسارة التي تجلب اللذات فصرت كلما التفت الى قصيدة خسرت امرأة. ارتضيت بالقليل مما ترميه الحياة لي، فشلت في كل المهن التي زاولتها، المطرقة في يدي لا تعرف طريق المسمار فأدفع ثمن سهوي رضوضا وانخذالا امام زوجتي فأسمع قهقات الجدار "انه شاعر انه شاعر"، خسرت العديد من الاصدقاء، ارتضيت بعزلتي وغيّرت النظام وفقا لنزواتي وما يتطلبه انتظار القصيدة، تهجأت الحياة وفق نصيحة الشعراء فحفظت السنوات على ظهر قلب ثم نسيتها فتكررت اخطائي وظلت تتكرر حتى غدوت خطاً هرما أبيض الشعر، خسرت الاهل والوطن متعللا ببيت شعر قاله ابو الطيب المتنبي، وكم من مرة كنت اخرج من بيتي ملتجئا الى الغابات في ليالي الشتاء الدانماركي مصطحبا الفرزدق معي نصرخ بالجن: أخاكم اخاكم، خسارات كثيرة ربما كان افدحها بأني الهيت عن كل مكرمة بقصيدة لم أقلها.
بعد ثلاثين عاما اجلس خلف طاولة الكتابة في انتظار قصيدة، وكلما شرعت بالكتابة بكت طفلتي فأترك كل شيء واهرع اليها، احملها، اغيّر ملابسها، اهيىء رضاعتها، اطعمها، يخنقني القلق حين تمرض، ارقبها وهي تحبو وافرح حينما تمتد يدها نحو مكتبتي واضحك حينما اشاهدها تمزق كتبي واوراقي.
سنة مرت وانا لم اجترح سوى مرثيتين. هل فقدت القدرة على كتابة قصيدة؟ هل أصبحت بليدا؟ لماذا لا يقلقني الوجود والعدم بقدر ما يقلقني عدم تبرز ابنتي منذ يومين؟ هل انا نادم؟ لا ادري.
عزائي مقولة للفيلسوف الدانماركي سورن بيير كيركيغارد، ارددها مع نفسي كثيرا: "إن تتزوج تندم وإن لم تتزوج تندم كذلك، ان تنجب اطفالا تندم، وإن لم تنجب اطفالا تندم كذلك، إن تعش تندم وإن لم تعش تندم".
حميد العقابي نموذجا لشاعر العزلة الذي زهد ببهجة المنفى التي تأخذ، عادة، زادها من كمال النص.
من ديوانه قيد الطبع "غناء فحسب"
سراب مالح
يـفـركُ الـشـهـوةَ كـي يـسـطـعَ نـهـدٌ
عـابـثـاً
يُـنـشـبُ أظـفـارَهُ فـي جـمـرتـهِ
يـشـحـذُ الـسـكـيـنَ كـي يـرتـشـفَ الـنـكـهـةَ
مـن جـرحٍ مـضـيءْ
يـمـلأُ الـكـأسَ رعـافـاً
بـانـتـظـارِ الـقـادمِ الـضـالـعِ بـالـتـيـهِ
وفـي مـشـكـاتـهِ الـفـانـوسُ يـخـبـو
مـثـلـمـا الـمـوتُ الـبـطـيءْ
هـا هـوَ الـزائـرُ قـد جـاءَ
عـلـى الـسـلّـمِ وقْـع الـخـطـواتْ
خـطـوةٌ
تـقـتـربُ الآنَ
وكـفٌّ أوشـكـتْ أن تـطـرقَ الـبـابَ
ولـكـنْ
لـن يـجـيءْ
تـدي نـظّـارةَ الـعـتـمـةِ
يـمـضـي
وعـصـاهْ
تـجـلـدُ الـشـكَّ الـذي ضـلَّ الـيـقـيـنْ
هـكـذا
إذْ
يـنـطـلـي الـوهـمُ عـلـيـه
بـعـنـاقٍ هـادرٍ يـحـتـضـنُ الأفـعـى
يـنـامْ
والـكـوابـيـسُ تـصـيءْ
حـيـنـمـا يـدركُ سـرَّ الـلـعـبـةِ الـخـرقـاءِ
يَـلـغـى بـالـعـبـثْ
يـطـعـنُ الـمـاءَ
ويـبـكـي
30/5/2002 فـايـلـه
* * *
من كتابه"اصغي الى رمادي"
حينما
سوف ارحل،
أترك في شقتي:
الستائر مسدلة،
اصص الزهر عطشى
واهدي لجارتي المقعدة:
سريري،
ومقلاة بيض،
ومنضدتي.
وانفض عن شرشفي
ماتخبأ فيه من الليل والاحتلامات
أرميه في سلة رطبة
واقول:
"وداعا"
لوجه تخفى بأقنعة من غبار المرايا
أغافل مكتبتي
هاربا
من عيون القصائد ساخرة
ثم أهبط
مبتسما،
واثقا من هروبي
سأسخر من كذبة لاتفارقني
حينما اتذكر شعري
ومخطوطة عن مغني الطريق
الذي مات مختنقا
سوف امضي باول حافلة
تاركا للرصيف بقايا وجودي
كما بصمة للمهرب في مقبض الباب
او في مرايا المراصد
* * *
ربما
سوف يكتشف الجار رائحة لغيابي
فيقتحم الشقة الفارغة
ليراني
- كما كنت قبل الغياب -
نائما
وعلى شفتي ابتسامة سخرية
مثل امنية خائبة.
فايله 11/ 11/ 1997
عبد الرحمن الماجدي- ملحق جريدة النهار الثقافي16 / 3 / 2003