صفـوان الوعــل |
حالما أنهى الإمامُ خطبتهُ ونزل عن المنبر وقبل أن ينفضّ جمعُ المصلين ، نهضَ شيخٌ ذو لحيةٍ بيضاء هاطلة على صدرهِ صارخاً في الجمع بصوتٍ جهوري مبحوح: " أيها الناس لن يـسـتـقـيـمَ دينُ آبائكم إلا بـقـتـل صفوان " جاء وقعُ الاسم كصاعقةٍ على أسماع المصلّين فـشـلَّ حركتهم على الرغم من أن ما قاله الشيخ لم يكُ مفاجئاً فقد كانت قضيةُ صفوان مدارَ حديث الناس في المدينة إلا أنهم حاولوا تهوين الأمر
احتراماً لمشاعر الإمام . انشدّتِ الأبصار إلى حيث المنبر لكن الإمام قد توارى مطأطئ الرأس وهذا ما شجّع المصلّين على الاستماع إلى ما يقوله الشيخ العنزي ، كانوا جميعاً مـتـفـقـيـن على ما سمعوه لكنهم
مـخـتـلـفـون مع أنـفـسـهـم . أفلتَ صوتُ أحدهم من عقال تـنـاقـضـهِ ولكيلا يُغضب الجمعَ جاء خطابه على صيغة سؤالِ مَنْ يجهل الوسيلة : " وكيف نقتلُ صفوان ولم نره يوماً يحملسيفاً أو خنجراً ، أليس هذا غدراً ؟ " كانت وجوه المصلين تدلّ على اتـفـاقـهـم مع القائل لكنهم التزموا الصمت كيلا تُـفـتضح خباياهم فجاء صوت الشيخ مرتعشاً غاضباً موجهاً كلامه إلى السائل باستهانةٍ وتأنيب : " لكنه يحملُ ما هو أمضى من السيف والخنجر " نطّتْ ضحكةٌ من شاب أعمى كان يقف منزوياً فالتوتْ إلى جهته الأعناقُ ولولا افتعالهم الحرص على جديّةِ الموضوع وقدسية المكان لأثارتْ سخريةُ الشاب عاصفةً من الضحك بل والشماتة من
الإمام ، ولكي يعبروا عن قناعتهم بما سمعوه فقد فوّضوا أمرهم وأمر صفوان إلى الشيخ العنزي الذي بدتْ عليه علامات الارتياح لهذا الـتـفـويض فنفضَ عباءته وخرج من المسجد مسرعاً يتبعهُ جمعُ المصلين منطلقين
نحو سوق المدينة راغمين التجار وأصحاب المحلات والحرفيين على ترك محلاتهم والاشتراك في الجهاد المقدس فلم تجدْ دعوة الشيخ من معارضٍ إلا بعض السكارى الذين أفلتت الخمرة ألسنتهم بجملٍ عن الشرف وامرأة
الإمام وصفوان الوعل ولم تجد من المجاهدين مَنْ يتجرأ على الرد بغير المزيد من الهياج وصبّ اللعنات على المارقين والنساء . خرجت النسوةُ بالصنوج والزغاريد لاستقبال الرجال ظناً منهنّ بأنهم قرروا أخيراً التطوع لصد هجمات الأعداء المتربصين بثغورِ البلاد ، وحينما لم يـلـتـفـت الرجال إليهن حسبن ذلك من شيم
وصلابة الذاهبين في أمرٍ جليل فانضوين تحت لواء الشيخ العنزي وسرن خلف الرجال بنسقٍ طويل تشقّ غبارُه الطريق حتى توقف الشيخ عند دار صفوان الوعل ملتفتاً إلى الرجال الغاضبين رافعاً عصاه كأنه يهددُ بها
السماء مردداً جملته الغاضبة : " لن يـسـتـقـيـمَ دينُ آبائكم إلا بـقـتـل صفوان " عندئذٍ أدركت النسوةُ ما ينوي الرجال فعله فتوقفن عن الضرب بالصنوج وسرتْ همهمةٌ بينهن وضحكات خبيثة أثارتْ غضب الرجال فحاول كلّ منهم إبعادَ حرمهِ فخرجن عن كردوس المسيرة واكـتـفـيـن
بالوقوف على جانبي الميدان الذي كانت تلوح عليه ألوية الثأر والغضب لـلـشـرف المنتهك . انتخب الشيخ شاباً مفتول العضلات كي يقتحم الدار فخرج مزهواً وهو يرتجز هازاً سيفه بوجهِ الرجال :إني أنا الشبل سليل
العنزيرضعتُ في المهدِ حليبَ العزّ" " ..... أقطعُ نـسـلَ راعياتِ المعزِ بضربةٍ قاصمةٍ من توقفَ المرتجزُ حيث أن قريحته لم تسعفه بقافيةٍ يختم بها رجزه فراح يكرر البيت الناقص علّ هـبـةً من السماءتـنـقـذ شرفه الرجولي وهو الذي انـبـرى ليُعيدَ للإمام شرفه الذي انتهكهُ صفوان ، أثارتْ حيرتهُ همهمةً تحولت إلى قهقهاتٍ وغضب حينما ارتـفـعَ صوتُ مجهولٍ من بين الجمع ليكملَ البيت بقافيةٍ انهارت لها كبرياء ألوية الميدان ، فقد سُمعَ صوتٌ يرتفع بكلمةٍ سيبقى صداها مدوياً حتى يومنا هذا وسيستمر بالتأكيد طالما بقيت سيرة الإمام تتردد في محافلنا كلها وطالما بقيَ البعض في شكّ من براءةِ زوجة الإمام مهما حاولتْ كتبُ التأريخ وأئمة المساجد إقناع الناس بترديدِ عبارات قاضي الشرع الذي أصدر حكمه ببراءةِ زوجة الإمام كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب . وعودةً إلى الميدان ، فبعد أن انطلقت كلمةُ المجهول ، القافية التي كانت السيف الذي قطع الجمع إلى فريقين ، فريق يساند الشيخ العنزي ويرى أن الدين لن يستقيم إلا بقتل صفوان ويطالب
بتسليم صاحب الصوت الذي مرّغ راية الشرف والعزيمة في الوحل وفريق آخر كان لا يرى الأمر يستحق ذلك بل ويرى أن مسؤولية العار الذي لحقهم لا يتحمله صفوان الوعل وحده ، وقد انضم إلى هذا الفريق الكثير من النساء
اللواتي انفلتتْ ألسنتهن بأسرارٍ لا يعرفها الرجال ، بل تجرأ البعض منهنّ بالـثـناء على صفوان ورجولته ، فأقسم رجالُ الفريق الأول على هجر زوجاتهم والانـتـقـام من صفوان والخوارج وهذه صفة أطلقتْ فيما
بعد على الفريق الثاني ، ونشبت المعركة بين الفريقين وسالت دماء غزيرة حتى ارتفع صوت المؤذن لصلاة المغرب ، عندها انقسم المصلّون إلى جماعاتٍ مـتـفـرقة منها تـفـتـي ببطلان إمامة رجل خانته زوجته ومنهم
من يصرّ على تكذيب الأمر وما بينهما جماعات شككتْ حتى باتجاه القبلة وخلافات فقهية أخرى . بعد صلاة الفجر وقبل أن يتم دفن القتلى انطلقَ صوتُ الشيخ العنزي يوقظ النيامَ ويندد بالمتخاذلين والخوارج فتجمع الناسُ ثانيةً في الميدان الذي تتوسطه دار صفوان الذي لم يخرج منها منذ
يوم الفضيحة . حاول بعض شيوخ المدينة وعقلائها ثـني الشيخ عن دعوته إلا أنه استطاع إقناعهم بما يدعو إليه لئلا تكون فتنةً وتصبح قدسية إمامهم لقمةً تلوكها ألسنةُ الملحدين والروافض ، ولكي يحسمَ الشيخ
الأمر بضربةٍ خاطفة ويتفرغ بعده لمقاتلةِ الخصوم أنتخب عشرة رجال من شباب المدينة كي يقتحموا الدار فتقدموا بزهوٍ وكبرياء ، حاول أحدهم أن يرتجل رجزاً فنهاه الشيخ عندها ارتفعت قهقهات شامتة . تراجع
الرجال العشرة قليلاً وفي هجمةٍ واحدة اندفعوا نحو باب دار صفوان وسط حماس وتكبير الرجال فانهار الجدار وارتفع غبارٌ كثيف حجب الرؤية ، هرعَ الجميع ليزيحوا الأنقاض وليشهدوا مقتل صفوان المحاصر إلا أنهم
وجدوا أنفسهم مشغولين بإزاحة الركام عن عشرة أجساد هامدة تحت أنقاض الجدار المنهار وليشهدوا ما لم يكن في حسبانهم ، فبعد أن أزيح الركام انتصبَ أمامهم جدارٌ آخر فتراجع البعض منهم بذهولٍ وارتفعتْ أصوات
المعارضين بالتكبير والتهليل وإعلان براءة صفوان فـتـشـدد الشيخ العنزي بمسعاه مفسراً الأمر بأنه حكمة إلهية لاختبار صبر المؤمنين وإيمانهم ، انتخب عشرة رجال آخرين مبشراً إياهم والشهداءَ والصابرين
بالجنة . تـقـدم الرجال والشيخ العنزي يصرخ بصوتٍ أرعب الجميع " منهم مـَن قضى نحبَهُ ومنهم مـَن ينتظر وما بدلوا تبديلا " ، ارتطم الرجال بالجدار الثاني محدثين دوياً تردد صداه في الوادي وغطت
الميدان غيمةٌ داكنة من الغبار ، تـنـادت الأصوات لإنقاذ المجاهدين فهبوا جميعاً حاملين المجارف والسيوف ليعودوا بعد لحظات ووجوههم مغطاة بغبارٍ كثيف لا تظهر منها غير عيون يبرق فيها سؤال غريب . انفلق
بحرٌ النساء بصرخةِ امرأةٍ جاءت راكضةً باتجاه الشيخ العنزي وهي تحمل عمودَ خيمةٍ ، وحينما حال الرجال بينها وبين الشيخ راحت تطلقُ صرخاتٍ هستيرية شاتمةً الشيخ والإمام وزوجته الزانية ، انضمتْ إليها نسوة كثيرات نادبات شاتمات بكلام يعف اللسان عن ذكره فانقسم فريق الشيخ مرة أخرى إلى مؤيد ومعارض مؤكدين على أن ما رأوه بأعينهم من
معجزاتٍ لهو دليل على براءة صفوان ونسبَ بعضٌ منهم إلى صفوان كراماتٍ وأفعالاً خارقة ، بل ذكر البعض منهم بأنه شاهد بعينيه كيف ينتصب جداراً جديداً كلما انهار جدار فـنـشـبـت معركة حامية بين حزب الـشيخ
العنزي ومعارضيه الذين انضمّ تحت لوائهم أغلب النساء . قال الراوي إن أكثر من خمسين ألـفـاً من الرجال والنساء قد قُـتـل ذلك اليوم وحده ، وتجدد القتال في الأيام التالية على الرغم من توقيعِ معاهدات
الهدنة ، وكاد الناس أن يـتـنـفـسـوا الصعداء ويستبشروا بانتهاء الـفـتـنة حينما علموا بمقتل الشيخ العنزي وولده بعد أثني عشر يوماً من المعارك ، لولا الأخبار التي جاءت بها القوافل التجارية والركبان
والشعراء الجوالون والتي ذكرت بأن المعارك قد نشبت في مدن أخرى وأمصار كثيرة مطالبة بدم الشيخ العنزي والاقتصاص من قـتـلـتـهِ من الخوارج والروافض وآل صفوان فاشتدّ القتال ثانيةً ، حتى أشاعتْ امرأةٌ
بأنها رأت صفوان في منامها يخبرها بأن الحرب لن تـتـوقف حتى تترمل النساء أجمعهن عندها سأظهر وأتزوج كلّ النساء لأملأ الأرض حبّاً وأخوّةً بعد أن مُلئت ضغينةً وأعداء عندئذٍ خبتْ نار الحرب وتبادل الرجال
قبلات الصلح الزائفة خوفاً على نسائهم من أن تسرقهن فحولةُ صفوان بعد موتهم ، ولم يكن هذا الهاجس محض وهمٍ بل إن البعض قد ذكر بأن نساءه يرددن اسم صفوان في أحلامهن أو في زلات اللسان . في الذكرى السنوية الأولى لمعركة صفوان خرج الجميع لزيارة قبور قتلاهم وهناك تجدد القتال ثانيةً ولم يتوقف حتى اجتاحت المدينة جيوش الفاتحين من أمصار أخرى بحجةِ حماية دار الولي صفوان
( قُدس سرُه ) ودام احتلال المدينة ثلاث مائة سنة لم يتوقف خلالها القتال بين الشعب والمحتلين سنةً وبين العنزيين والصفوانيين سنةً أخرى حتى سقطت البلاد تحت حكم فتى ادّعى بأنه من سلالة الشيخ العنزي
فصدّقه البعض وكذّبه آخرون إلا أنه استطاع بحكمتهِ ودهائه أن يستميل القلوب نحوه بالتساهل مع الصفوانيين واحترام تقاليدهم وطقوسهم السنوية بل ورضوخاً لـقـوتهم راح يشاركهم كل عام بطقوس اليوم المقدس
وذلك بـتـقـديـم عشرةِ رجال ممن يتبعون المذهب العنزي لذبحهم عند عتبة دار صفوان ، بينما هو قد استولى على الأرض والماشية وثروات البلاد . أمسِ حاولتُ أن أكبح رغبتي الجامحة في مشاهدةِ احـتـفـالات الذكرى الألف ليوم صفوان وتساءلتُ عن حقيقة انتمائي ، وعلى الرغم من أني لا أؤمن بكلتا الطائـفـتـيـن إلا أني وجدتُـني
واقـفـاً وسط احـتـفـال تـقـديم القربان كما يفعل المؤمنون من الصفوانيين ووجدتُ العذر لصديقي العنزي الذي كان خائفاً من أن تـقـع الـقـرعة عليه فيكون واحداً من العشرة الذي سيقدمون قرباناً للولي صفوان
. في طريقِ عودتي من الاحتفال توقفتُ عند مسجد الصفوانيين وبعد ترددٍ دخلتُ ، توجهتُ إلى المحراب حيث جلس الشيخ عماد الدين الصفواني بعد صلاة الوفاء ، سجدتُ عند قدميه وبصوتٍ مخنوق
بالعبرة والرهبةِ سألته : " متى سيظهر الإمام صفوان يا مولاي ؟" فأجاب بـثـقـةٍ مُـشـفـقـاً على جهلي ومزهواً بطاعتي وإيماني المتمثل بالدموع التي راحت تهدر على صفحتي وجهي : " إنه لم يغبْ يا ولدي ، إنه شاخصٌ بيننا كلّ
لحظةٍ ، لأنه مقيمٌ في الهواء الذي نستنشقُ وفي الخبز الذي نأكلُ وفي الماء الذي نشربُ بل إنه مقيم في سرائرنا وفي أعماق أرواحنا" وحينما لم يجد أن أجابته قد اخترقتْ جدارَ عقلي ، قال بهدوء وجلال : " إنه الحقيقة يا ولدي "
12/6/1998 دمشق
|