صحـوة المـوت |
كنتُ أقـرأ على صاحبي فصلاً من كتابٍ لـلـقـسّ الـدنـمـاركي هانـس مـيـلـه هـافـن وكان بعنوان ( الكلمات الأخيرة ) وفيه يتحدثُ الكاتبُ عن الكلمات الأخيرة التي ينطقها الإنسانُ في
لحظاتِ احتضاره أو كما يطلق عليها أهـلـُنا عبارة ( صحوة الموت ) حيث فيها يهجرُ الإنسان بكلماتٍ وما أدراك من كلمات قد تُسقط حضارةً أو تكشف سراً وربما تكون تافهة كالناطق بها ، قد يصدقها السامعُ أو قـد لا
يصدقها وربما يبقى حائراً بين الحالتين ، فكيف يمكن إيقاظ النائم من صحوتهِ الأخيرة للتأكد من صدق الاعتراف أو النبوءة ؟
يقول القسُّ الدنماركي بأن الشاعر الألماني غوته كان في لحظاته الأخيرة يردد " مزيداً من النور ، مزيداً من النور " ويتساءل الكاتبُ عن شعور غوته في تلك
اللحظات " هل كان يتخبط في عتمةٍ فيستغيث ؟ أو كان يرى بصيصاً من نور فيطلب المزيد ؟ " لا أحد يستطيع الإجابة بالتأكيد . ومن الأمثلة الطريفة التي يوردها الكاتب في مقالهِ قصة الرجل الذي ذهب لتوديع
صديقهِ المعروف ببخلهِ وحينما وقف عند سريره فتح المحتضرُ عينيه وخاطب صديقه الذي لم يره منذ زمن طويل " حسناً فعلت لقد جئتَ في الوقت المناسب فالسوبرماركت القريب من دارنا يبيع اليوم محارم التواليت بسعرٍ مخفّض"
توقفتُ عن القراءة بصوت عالٍ حينما شاهدتُ صاحبي شارد الذهن ، وحينما أدرك انتباهي لشرودهِ رفع صوته بغناءٍ ريفي كأنه يطرد غثياناً أو يهرب من عتمةٍ ، كان قلقاً يجلس لحظات ثم يهب
واقفاً بارتباكٍ سرعان ما يجلس عابثاً بأزرار الريموت كونترول . ذهب إلى المطبخ وعاد بقنينةِ ( سـنـابـس ) وكأسين ، وضعتُ الكتاب في حقيبتي وجلسنا مـتـقـابـلـيـن . بعد كأسين أو ثلاث أدركتُ بأن للسكر صحوةً كالموت تماماً ، فها هو صاحبي قد بدأ يهجرُ. أخبرني : حينما كنتُ طفلاً حضرتُ وفاة جدتي ، وفي لحظاتها الأخيرة كانت ترددُ اسمَ رجلٍ غريب ، " ظل الاسمُ محفوراً في ذاكرتي حتى سألتُ عنه أحد شيوخ مدينتنا فأخبرني بأنه كان رجلاً جميلاً ، طويل القامة ،
أشقر وذا عينين زرقاوين سلب بهما قلوب العذارى والمحصنات حتى اضطر رجال الحي إلى نفيه ليس من الحي فحسب بل من المدينة كلها "
" كيف لم أدرك ذلك؟" سألتُ نفسي بوقاحةٍ وخبث حيث أني ولأول مرة أكتشف بأن صاحبي أشقر وذو عينين زرقاوين .
تلك الليلة خفتُ . أنا الأعزلَ خفتُ ، وكم تمنيتُ لـو أن الموتَ بلا صحوةٍ ولا..... بطيخ . فايله 4/6/1997
|