شهــادة 1 |
القصيـدة |
بحورٌ قديمةٌ وأخرى أكتشفُها للمرةِ الأولى تتلاطمُ أمواجها الصاخبةُ في الرأس ، والخواطرُ عصافيرُ
فسفوريةٌ تطيرُ في ظلامِ الغموض وتختفي مثل نيازكَ تتهاوى في وهادٍ عميقةٍ ، قلقٌ في اليد وهي تبحثُ عن أسرارٍ قديمةٍ في صناديقِ الذاكرة ، تحاول أن تمسكَ البياضَ الذي تنسفحُ عليهِ الآمُ البشرية
ويتشاجرُ فيهِ الأمواتُ والملائكة. أي جنونٍ يجعلكَ تستيقظُ وأنتَ ترددُ كلماتٍ مبهمةً لضبطِ ايقاعِ الفكرةِ ! وأي تشبثٍ يائسٍ يدفعكَ إلى تزويجِ صخبِ البحرِ بسكينةِ الروحِ المتأملة !تناقضٌ صارخٌ يؤاخي
ما بينَ الإشراق والسلوكِ اليومي المركوسِ في وحلِ الظلام ، وحدها القصيدةُ قادرةٌ على جمعِ هذين النقيضين على بياضِ الورقة المتلهفِ إلى سوادِ القلم ورمادِ الأفكار ونار الطيش ، حينها يتحولُ الضياعُ
إلى طريقٍ يقود الخطى للإرتقاء الى مجهولٍ نسميهِ المطلق فيصبحُ كل هاجسٍ فكرةً تتعوسجُ في الرأس أو تزهر ، و( كلّ حادثٍ رمزاً ) كما يقولُ غوته ، فتأتي نشوةُ اكتمال القصيدةِ حتى لو كانت مرثيةً ، نشوةٌ
تشبهُ نشوةَ الأم بالآمِ الولادة . البداياتُ صعبةٌ فالقصيدةُ أنثى لعوب لا تلتقيها إلا مصادفة وليس بإمكانك إلا أن تجعلَ من هذا الدون جوان
المتحفز في داخلكَ يتهيأ لحضور حفلةِ المصادفات . أكثرُ من شهرٍ وأنا أطاردُ القصيدةَ ( أو بالأحرى أطاردُ البداية ) بالتوسلِ مرةً وبالإغراء مرةً أخرى ولكن دون
جدوى ، كم مرةً وضعتُ الورقةَ أمامي وقررتُ أن اكتبَ أيةَ كلمةٍ تخطرُ في الذهن عندئذٍ تبخرتِ اللغاتُ فأدركتُ أن مأزقَ الإنسانُ لا يكمن إلا في حريتهِ . اليوم أنهيتُ إضرابي عن مشاهدةِ التلفزيون الذي بدأتهُ قبلَ أكثرَ من خمس سنوات حينما انتبهتُ إلي في لحظاتِ
صحوةِ الضمير فوجدتني ماسكاً بفخذِ دجاجةٍ أنهشهُ مثل ضبعٍ جائع ,انا أشاهدُ نشرةَ الأخبار التي كانت تعرضُ صوراً لإطفالٍ صوماليين يموتون جوعاً ، ولأني لم أستطع أن أعلن إضرابي عن الطعام فقد أعلنتُ
إضراباً عن مشاهدةِ التلفزيون . ولكن الوحدةَ أقسى من أن يصمد أمامها صدقُ الموقف ، فحينما تترككَ العشيقةُ وينشغلُ الصديقُ عنك بوحدتهِ وتيأسُ من شيطانكَ الشعري ، تبحثُ عن أي صوتٍ يملأ صممَ المكان ،
وهكذا التجأتُ اليومَ إلى هذا الصندوقِ المتخمِ بالآم الشعوب . شعوبٌ لا تريد غير أن تحيى ، فمنذُ أن بدأ وعيي يحبو على أرضِ الواقع وأنا أرى الشعوبَ لا تطمحُ إلى أكثر من
شفقةٍ تتسولها من جبارٍ أرعنَ أو أقدارٍ مستبدة . فجأةً وخزتني الشوكةُ التي تكمنُ منذ أكثرُ من شهرٍ تحتَ لساني فوجدتني أرددُ مع نفسي عبارة ( رايةٌ خاسره ) فتداركني المتداركُ ، أطفأتُ التلفزيون محاولاً
أن أدخلَ القصيدةَ لاهياً كي أبعدَ احتمال الألم الذي يسببه لي الفشلُ في كتابة قصيدةٍ : " رايةٌ خاسره ، تتشبثُ بالنارِ ، يخفقُ في الذلّ اخفاقُها ، تتمرغُ في وحلِ أمجادها الغابره " أعدتُ قراءةَ ما كتبتُ فوجدتُ بأني أستطيعُ الإستمرارَ في اللعبةِ خاصةً وأني بدأتُ أشعرُ بمتعةِ الكتابةِ
السرية تثيرها القافيةُ والكلماتُ التي طفقتْ تتراصفُ في الذاكرةِ يهندسها الإيقاعُ والجناس : " غايةٌ ساخره حينما شاغرٌ يأنسُ الفكرةَ الشاغره ثم يعوي ظلاماً على قمرٍ شاعرٍ شعَّ في الذاكره " أشعلتُ سيجارةً وقبلَ أن أعيدَ قراءةَ المقطعَ الثاني رمى الإيقاعُ في صحني كلمةً ثالثةً حفّزتني على
المواصلة : " آيةٌ حائره حينما يعبرُ الدودُ جسرَ الضحايا وتكتشفُ الروحُ سوءاتها و ........................ ......................... يختفي اللهُ في فكرةٍ عابره " لم أشعرْ بنفاد قدرتي على اللعب ، وعلى الرغم من عدم قناعتي بنهايةِ القصيدة إلا أن هاجساً مشاكساً أوقفني
رافعاً سبابتهُ بوجهي محذراً ليحولَ المزاحَ إلى سؤالٍ مبهمٍ : " حقاً ماذا بعدَ اختفاءِ اللهِ في فكرةٍ عابره ؟ " شعرتُ بامتلاء مثانتي فأزحتُ الأوراقَ جانباً وخرجتُ من الغرفة، وحينما عدتُ ثانيةً ضغطتُ على زر التلفزيون ،
كان الـنـقـاشُ محتدماً في البرلمانِ الدنماركي حول مسألةِ اقرار حريةِ الإنتحار أو ما سميَ بـ ( الموتُ الرحيم ) 21/10/1997 فايله |